بطولات
في التاريخ البشري
أضاءت شمعة
نور الهدى، وانتشر في أحياء العرب، وشمخت به جبال مكة، وتلألأت وديان حول أم
القرى، فتولدت البشرية بأكملها من جديد، وتفتحت ثغرة الحياة بأمل الصبح الضياء،
مبتسمة على وجه الأرض، وكأن السماء ملأت الآفاق بزرقتها الصافية، ولم لا يكون ذلك
كله، وأكثر؟ لقد تنزلت آيات الله البينات على حبيبه المصطفى عليه السلام وقد آنت
الأوان ليذهب عنه القلق الذي يفرّده عن مكة ورونقها الرذيلة، ساقطة في الآثام،
ساعية في الظلم والفساد، وقد آنت الأوان ليصفي المصطفى قلوب أهل مكة من الشرك
وعبادة الأوثان! وقد آنت الأوان ليلقي محمد صلى الله عليه وسلم مشاعر الحب والحنان
في قلوب البشرية ويقربهم إلى الله الديان، ويبعدهم عن معبد الأوثان!
ولكن تغيرت
الظروف الاجتماعية، وتعبست وجوه القرابة، فما تنكرت جبال مكة محمدا التي عرفته بالصادق
الأمين، ولكن الناس نسوا أنه محمد (عليه الصلاة والسلام) وما بقي ذكره إلا دعوته
إلى الله الواحد الأحد الصمد، وتولوا بما كانوا فيه من معرفة، وأنكروه يقينا
الصادق الأمين كما عرفوه من أربعين سنة وما انطفأت نار كبرهم بل زادت بوقود الأنانية
والغضب، فأشعلوا هذا الانتقام والغضب في أقرانهم من من آمنوا بمحمد فصدوه وأصحابه
عن سبيل الله ما استطاعوا وفوق استطاعتهم منفردين ومجتمعين، سرا وعلانية. فشهدت
أرض مكة وسماؤها ما لم يخطر ببال أحد. فكأن محن الدنيا، ومصائب الحياة استقرت بمكة
لتنزل على المسلمين من حين لآخر. وكانت كل محنة أكبر من أختها أو مما كان المسلمون
فيها، فضاقت على المسلمين الأرض بما رحبت وضاقت نفوس أعداء الله والإسلام بإيمانهم
بالله وحده.
وفي هذه
الظروف الصعبة، لما كان الإسلام غريبا والموحدون القليلون غرباء في الأرض الفسيحة أمام
سادة مكة، وولاة الكعبة، فلم يكن لهؤلاء الغرباء الموحدين سلاح إلا الصبر على ما أصيبوا،
وكان لقاء محمد (صلى الله عليه وسلم) داءا يزيدهم إيمانا، وتقر به أعينهم، فكانوا
يودعون محمدا وكأنهم قد أسلموا من جديد في كل مرة، وقد كان إيمانهم يتجدد في كل
ثانية متوكلين على الله الوحد القدير، ولم تنته القصة ها هنا بل بدأت سادة مكة
التعذيب وإصابة الأذى بعد التكفير البالغ، والعداوة الشديدة، وعادوهم عداوة لم تر
أهل مكة عداوة مثلها من قبل فوصلوا حد القتل والغصب وكان ذلك على سادة قريش يسير!
فيا له من أنين وبكاء أرض مكة لما رويت بدم سمية أول شهيدة في الإسلام وزوجها ياسر
أول شهيد في الإسلام !
وكانت تلك
الحوادث البشعة عسيرة على الحبيب المصطفى (صلى الله عليه وسلم) أن ير أحباءه في
مصائب ومحن لا تقلّ صباحا ولامساء وإن كان إيمانهم يزداد يوما بعد يوم. ولما بلغ
أذى الكفار أقصى الحد. فيا لأمر حبيب لأحبائه! أمرهم بالفراق! أمرهم بالهجرة! هجرة
إلى ديار لم يسكنوها، ولم يعرفوا ظروفها! ولنعم الأحباء كانوا الذين خضعوا لأمر
الحبيب فشدوا رحالهم، وأثبتوا أنفسهم، وراحوا بعيدين عن أرضهم المباركة، وعن عشائرهم
القسية، فتركوا أرضا ولدوا بها، وترعرعوا، ما أعظم همة المهاجرين إلى الحبشة! وما أعظم إيمان المسلمين حينذاك، وما أخلص حب
المسلمين وقتذاك!! حفظهم تاريخ البشرية في بطون صفحاتها البيضاء أبطالا، ولا مرية
أنهم كانوا يستحقون أكثر من ذلك. فقد هاجر المسلمون رجالا ونساء، أقوياء وضعفاء، ويا
تُرَى أيُترك سراحُهم للانطلاق إلى الحبشة و إلى النجاشي؟ وإلى الأمن ؟ بعيدين عن
شر زعماء قريش وأعوانهم إن كان زعماء الأعداء ناس كأبي جهل، وعتبة، وشيبة و ..
و... و...؟ وحقا، خسرت فرسان مكة في القبض
أي مهاجر ترك دياره بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب تعقبهم للمهاجرين زبدا
رابيا، وازداد غضب زعماء الكفار – زعماء مشركي مكة – حد الانتقام. وأصبحوا "
كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، صم بكم عمي فهم لا يعقلون "
قدر الله
لهؤلاء المهاجرين أمنا وسلاما على وجه الأرض فكيف كان لأذى أن يصيبهم؟ ! وأصبحت
هجرة الموحدين المسلمين الذين قلت عدتهم، وضعفت قوتهم بعد وصول الحبشة عارا لسادة
قريش. فماذا يقول العرب، أ أبناء قريش تركوا مكة وهاجروا إلى النجاشي، إلى الحبشة،
إلى النصارى، ؟؟ أين سرعة فرسان مكة وخبراؤهم ؟ أضعفوا أمام رهط ضعيف! إذن، عزمت
سيادة مكة بأنهم لن يتركوا هاربيهم من أهاليهم، وعشائرهم، آمنين مطمئنين أينما
كانوا.