أولاً: ابن عبد ربه
1- مـراحــل حــيــاتـــه
نسبه: هو
أحمد بن محمد بن عبدربه بن حبيب بن حدير بن سالم مولى الأمير الأموي هشام بن
عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك بن مروان من أهل قرطبة().
مولده ووفاته: ولد
في سنة 246هـ في قرطبة، وتوفي سنة 328هـ()
ودفن في مقبرة بني العباس()
في قرطبة()
وله من العمر اثنتان وثمانون سنة، وكان قد أصيب بالفالج قبيل وفاته بأعوام().
نشأته: لم
تتحدث المصادر كثيراً عن نشأته ولكنه نشأ فقيراً خاملاً()
ومع ذلك فقد أخذ نصيباً وافراً من العلم فدرس العلوم الدينية واللغوية والتاريخية،
ويتجلى أثر هذه الدراسة بوضوح في كل باب من أبواب كتابه العقد الفريد()
فاستحق أن يكون أديب الأندلس وفصيحها().
لقد
عاش ابن عبد ربه حياته لاهياً عابثاً حتى أدركه الكبر وبلغ منه عتياً، ومع ذلك فقد
عرف عنه حبه للغناء والطرب وميله الشديد لأشعار الغزل والمجون()،
يذكر المقري عن ذلك في رواية أبي عامر بن عقال عن ابن حزم أنه ذات مرة مر بقصر من
قصور قرطبة لبعض الرؤساء فسمع منه غناء فوقف يستمع لهذا الغناء حتى رش بالماء وهو
يستمع فكتب قصيدة في روعة هذا الغناء الذي سمعه()،
كذلك كان يكثر من شرب الخمر إلا أنه برره بقوله: شرب المأمون وشرب... إلخ إلى غير
ذلك من الأسماء التي في زمن الراشدين والأمويين والعباسيين()،
ومع ذلك فإن بعض الكتاب المحدثين ينفي شربه للخمر مع إكثاره من ذكرها في شعره().
والملفت
للنظر في حياته ما ذكره المقري في غير موضع أنه كان له فتى يهواه فأخبره أنه
سيسافر غداً فلما جاء الصباح أجبره المطر على عدم الرحيل فانجلى عنه الهم وفرح
كثيراً وكتب أبياتاً يصوره فيها بالشمس والقمر().
ومع
ما ذكر أعلن ابن عبد ربه توبته في أواخر حياته ويبدو والله أعلم أن لاعتلال صحته()
وإصابته بالفالج أثر كبير في ذلك()،
وليس أدل على توبته من أشعاره التي عرفت "بالممحصات" وهي أشعار كثيرة
محّص فيها ونقض بها كل قطعة قالها في الصبا والغزل بقطعة في المواعظ والزهد().
عمله ومناصبه: ليس
لدينا معلومات كافية عن العمل الذي مارسه أو المناصب التي شغلها()
ويبدو أنه لكثرة ماله لم يحتج للعمل أو أنه قد شغل مناصب عادية ليست بذات أهمية أو
قيمة أو ربما أن بعض الأمراء كان يقدم له دخلاً ثابتاً().
والأبرز
في حياته ما أورده ابن الأبار أن ابن عبد ربه كان من الثوار الذين ثاروا مع
إبراهيم بن حجاج اللخمي فأخذ يغدق عليه الأعطيات بسبب شعره()،
ولكن هذه الرواية لا يمكن الركون إليها لأن ابن عبد ربه لو كان من ثوار الأندلس
لما استطاع العودة إلى قرطبة لأن مصير الثائر غالباً هو القتل إذا عاد للذين ثار
عليهم، وأحياناً قد يعفون عن الثائر وإذا افترضنا عفو الأمويين عنه فإنه لن يحظى
بالاحترام الذي كان يكنه الأمويون لابن عبد ربه، ولكن هذا الخبر يمكن توجيهه أن
ابن عبد ربه عندما ثار بنو حجاج في إشبيليا قصدهم ومدحهم وأثنى عليهم()
لينعموا عليه ولا غرابة في هذا فهو شاعر والشاعر يقصد الأمراء عله يحظى منهم
بالمال والأعطيات.
2-
شــيــوخــــه: تلقى
ابن عبد ربه العلم عن عدد من علماء عصره المشهورين في قرطبة وأبرزهم بقي بن مخلد()
ومحمد بن وضاح()
والخشني()
وعثمان بن المثنى()،
والواقع أن هؤلاء العلماء هم من كبار العلماء ليس في عصره فحسب بل في مختلف عصور
الأندلس وبالأخص بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح، لذلك نجد أن ابن عبد ربه قد برع في
العلوم الدينية والفضل في ذلك بعد الله لهذين العالمين الذين برعا في التفسير
والفقه والحديث، أما عن اضطلاعه بعلم اللغة والشعر فلشيخيه الخشني وعثمان بن
المثنى أثر كبير في ذلك إذ أنهما كانا من كبار علماء اللغة، أما عن التاريخ –وهو
الذي ارتبط في بداياته بالأسانيد- فقد تلقاه عن جميع مشائخه وخاصة ما يتعلق
بالسيرة النبوية وعصر الخلافة الراشدة لأنه كما نعلم قد ارتبط التاريخ في بداياته
بالعلوم الدينية الأخرى وخاصة علم الحديث.
3- مــذهــبــــه: كان ابن عبد ربه على مذهب أهل الأندلس
وهو المذهب المالكي فهو المذهب السائد في الأندلس()
وهذا دليل على أنه المذهب الذي كانت تصدر الفتاوى بموجبه وتكون التعاملات الشرعية
على أساسه، وإن وجد أتباع للمذاهب الأخرى فهو على مستوى فردي، وأن من الملاحظ عن ابن
عبد ربه لم يكن بهذا المستوى من التبحر الفقهي حتى يخالف ما عليه عامة أهل
الأندلس، يضاف إلى ذلك أنه كان يترخص في النبيذ والغناء. ومع ذلك فقد اتهم بالتشيع وجاء ذلك صريحاً على
لسان ابن كثير فعند حديثه عن خالد بن عبدالله القسري يقول: "وقد نسب إليه
صاحب العقد أشياء لا تصح لأن صاحب العقد كان فيه تشيع شنيع ومغالاة في أهل البيت
وربما لا يفهم من كلامه ما فيه من التشيع"()،
وعند الرجوع إلى العقد الفريد لا نجد أنه قد تحدث عن خالد بن عبدالله القسري بسوء
إطلاقاً، فمثلاً: يذكر وهو يتحدث عن الرافضة أن المغيرة بن سعد وهو من السبأية كان
يقول: أن علياً لو شاء لأحيى عاداً وثموداً وقروناً بعد ذلك كثيراً، فاقتتل مع
خالد فقتله وصلبه بواسط()،
كما ذكر ذلك الرجل الذي ادعى النبوة فظفر به خالد وقتله()،
كما أنه وصف خالداً بأنه من الأجواد()،
كما ذكر نماذجاً من خطبه وعده من خطباء العرب()،
ولا نعرف ماذا يقصد ابن كثير بالأشياء التي نسبها إلى خالد بن عبدالله القسري فهو
لم يذكرها، إضافة إلى أن رأي ابن كثير هو رأي غير دقيق فقد اصدر الحكم عليه ولم
يستند إلى أدلة، فكان حكمه متسرعاً لأنه في سياق نصه يرد على نفسه فيقول:
"وربما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيع"()
فما الذي فهمه ابن كثير ولم يفهمه الآخرون؟!
بل وتعدى الأمر ذلك فوصل الأمر بابن كثير باتهام الذهبي بالاغترار بابن عبد
ربه عندما وصفه بالحفظ()،
ثم ما يلبث هو أن يقوم بمدح ابن عبد ربه: "وكان من الفضلاء المكثرين والعلماء
بأخبار الأولين والمتأخرين وكتابه يدل على فضائل جمة وعلوم كثيرة مهمة"()،
وفي موضع آخر يقول ابن كثير: "يدل كثير من كلامه على تشيع فيه وميل إلى الحط
على بني أمية وهذا عجيب منه لأنه أحد مواليهم"()
والواقع أنه من خلال مراجعة العقد الفريد نلحظ أن هذا الكلام غير دقيق لأنه تحدث
عن بني أمية بما هو حق ولم يخطئ في حق أحد منهم بل ذكر ما لهم وما عليهم().
ولكن
الملاحظ على ابن عبد ربه أنه لم يترضَّ على أحد من الصحابة سوى عن أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي وأبناء علي -رضي الله عنهم جميعا-ً، بل إنه في بعض المواضع في حديثه عن علي وأبناء علي رضي الله
عنهم قد يبالغ في الترضي عليهم فيقول عن علي مثلاً: عليه السلام في مواضع عدة()،
ولكن هذا لا يجعلنا نصدر حكماً عليه بالتشيع فالعاطفة لآل البيت هي عند كل
المسلمين بدون استثناء وربما بالغ في عاطفته مما جعله يبالغ في الترضي عنهم، يضاف
إلى ما سبق أن من كان له ميولاً شيعية لا بد وأن يتطرق للحط من قدر أبي بكر الصديق
وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما لأنهما أبغض عند الشيعة من الأمويين، أو على الأقل
ينفث بعضاً من سمومه في سياق الحديث عنهم وهذا ما لم يحدث عند ابن عبد ربه إطلاقاً
فمثلاً: كان يرى أحقية أبي بكر بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم()،
كما أنه يذكر أن المخلفين عن بيعة أبي بكر هم علي والعباس والزبير رضي الله عنهم
بسبب انشغالهم بغسل -النبي
صلى الله عليه وسلم-()،
يضاف إلى ما ذكرنا سابقاً ما أورده المقري أن القاضي منذر بن سعيد قاضي قرطبة قد
سب ابن عبد ربه عندما قرئت عليه أرجوزته التي يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية
رابعهم ولا يذكر علي()
فلو كان لديه تشيع لما أسقط ذكر علي من أرجوزته لكن ربما يخطر بالبال أنه كان
ثملاً عند كتابة الأرجوزة.
مما
سبق يتضح لنا أن اتهامه بالتشيع هو اتهام غير دقيق يحتاج إلى إثباتات وأدلة دامغة
وهي غير متوفرة، إضافة إلى ذلك توجد إشارات في كتابه ومرآة حياة الأندلسية أن
التشيع قد كان منتشراً في الأندلس سوى ما حصل من العبيديين لاحقاً من محاولة لنشر
التشيع بإرسال بعض دعاتهم إلى الأندلس كابن حوقل()
وهذا يقودنا إلى استنتاج أن التشيع كان معدوماً في الأندلس في عصر ابن عبد ربه وهو
العصر الذي نتحدث عنه، وهذا يقود إلى أن اتهام ابن عبد ربه بالتشيع ليس دقيقاً لأن
التشيع كان معدوماً خاصة في زمن ابن عبد ربه.
ومن
جهة أخرى ما أورده ابن عبد ربه تحت عنوان قولهم في القرآن في كتاب العلم والأدب
فأورد ما كتبه المريسي حول قضية خلق القرآن والتي يرى فيها أن القرآن مخلوق()،
ويمكن أن نستنتج في ذلك إلى الأمور التالية:
1-
أورد قول المريسي: أن
ما عدا الله مخلوق ومن ذلك القرآن وهذه المقولة جعلت علماء السلف يقولون عن
المريسي كافر بسببها().
2-
أنه أورد هذه الرواية
في كتاب العلم والأدب ومعنى ذلك أنه يرى أنها من العلم الذي يجب أن يلم به الإنسان
ويعلمه.
3-
أنه أورد هذه الرواية
وحيدة في الحديث عن خلق القرآن وكأنه يرى أنها خلاصة القول في قضية خلق القرآن.
4-
تجاهله لمحنة الإمام
أحمد وعدم إيرادها لأنه ربما يرى أن ما جرى للإمام أحمد هو نتيجة حتمية لمن لا
يقول بخلق القرآن، وكذلك تجاهله لقصة الجعد بن درهم وذلك لأنه ربما يرى أنه على حق
والدولة الأموية أخطأت في حقه ولكن ترك هذه القصة حتى لا يثير غضب أولياء نعمته
الأمويين.
ثانياً: كتاب العقد الفريد
1-أسباب تأليفه:
نقف هنا عند الأسباب التي دعت
ابن عبد ربه إلى تأليف الكتاب ونستطيع استنتاجها من مقدمة الكتاب ومن القراءة الفاحصة
والدقيقة لجواهر العقد كما يلي:
1-
أن الكتب السابقة
محدودة في أخبارها فأراد لكتابه أن يكون جامعاً للفنون التي تدور في مخيلة العامة
والخاصة على حد سواء()،
"فمن ذلك الآداب والفضائل كحفظ الأسرار()
والوفاء والغدر()
والصبر والإقدام في الحروب، ومدح الكرم وذم البخل، والتحذير من الحسد، والغيبة،
وذم الكبر، ومدح التواضع والرفق والحث عليهما، والحياء وفضله وفوائده، وأدب الله
عز وجل لنبيه صلى الله عليه
وسلم، وأدب النبي صلى
الله عليه وسلم
لأمته، وآداب العلماء والحكماء، وأدب الحديث والاستماع، وأدب المجالسة، وأدب السلام والأذان، وتأديب الصغير،
وأدب تشميت العاطس، وأدب عيادة المريض، وأدب
المؤاكلة، ومن الفنون أيضاً
البلاغة وصفتها، ووجوهها، وأمثلة من البلاغة وما يناقضها، ومن
الفنون كذلك التهجد، والبكاء من خشية الله عز وجل، والقناعة، والرجاء، والخوف، والتوبة، ومن الفنون أيضاً الأنساب ويتميز أنه يخصص
جوهرة من جواهر العقد للأنساب ويدمجها مع فضائل العرب، ومن الفنون أيضاً الخطب
ويخصص لها جوهرة من جواهر العقدں
ويذكر
فيها نماذج لخطب النبي صلى الله عليه وسلم، وخطب الخلفاء الراشدين وغيرهم"،
ومن الفنون التاريخ كثيرة ولعل الكتاب نفسه دليل واضح على تلك الفنون التاريخية أو
ما تدل على وقائع تاريخية وأخباره.
2-
رأى أن في تأليفه
للكتاب سيكتسب التميز لا سيما وأن أسلوب تأليف الكتب في شتى العلوم والفنون هو
أسلوب حديث في الكتابة سبقه فيه أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني والمبرِّد في
الكامل وابن قتيبة في الأخبار الطوال، كما أنه سيكتسب التميز والأسبقية على نطاق
الأندلس لأنه لم يسبقه أحد في التأليف بهذا الأسلوب.
3-
أن ما سيحويه الكتاب
هو غاية الكمال في الأدب من وجهة نظر ابن عبد ربه وقد برر ذلك بقول أفلاطون:
"عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم وظاهرة في حسن اختيارهم" وبقول يحيى
بن خالد: "الناس يكتبون أحسن ما يسمعون ويحفظون أحسن ما يكتبون ويتحدثون
بأحسن ما يحفظون"()،
لكن ما يسجل لصالحه هو أنه برر نقاط الضعف لديه إن كان هناك نقاط ضعف بقول
العتابي: "إن الذي لا عيب فيه لا يموت أبداً ولا سبيل إلى السلامة من ألسنة
العامة" وكذلك قول العتابي: "من قرض شعراً أو وضع كتاباً فقد استهدف
للخصوم واستشرف للألسن إلا عند من نظر فيه بعين العدل وحكم بغير العدل"().
4-
أراد ابن عبد ربه أن
يثبت فضل الأندلس التي تعد بعيدة عن مركز الثقل في العالم الإسلامي وأن لها حظاً
في الكتابة في مختلف الفنون يقول: "ليعلم الناظر في كتابنا هذا أن لمغربنا
على قاصيته وبلدنا على انقطاعه حظاً من المنظوم والمنثور"().
1-
مــادتــه العــلـمـيّـة: قسم ابن عبد ربه مؤلفه إلى خمسة وعشرين
كتاباً سمّى كل كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد حيث تخيله على شكل عقد والعقد كما
نعلم يتألف من جانبين فجعل في كل جانب جوهرة تقابلها في الجانب الآخر جوهرة بنفس
المسمى لكنها تختلف عن الأولى بزيادة الثانية وفي مجالها أيضاً ففي العقد لؤلؤتان
وزبرجدتان وزمردتان وهكذا، أما واسطة العقد فأسماها الواسطة دون أن يميزها باسم
جوهرة ذلك أنها تتوسط العقد فجعلها متميزة عنه.
وقد
جاءت جواهر العقد كالتالي:
1-
كتاب اللؤلؤة في
السلطان.
2-
كتاب الفريدة في
الحروب.
3-
كتاب الزبرجدة في
الأجواد والأصفاد.
4-
كتاب الجمانة في
الوفود.
5-
كتاب المرجانة في
مخاطبة الملوك.
6-
كتاب الياقوتة في العلم
والأدب.
7-
كتاب الجوهرة في
الأمثال.
8-
كتاب الزمردة في
المواعظ والزهد.
9-
كتاب الدرة في
النوادب والتعازي والمراثي.
10-
كتاب اليتيمة في
النسب وفضائل العرب.
11-
كتاب العسجدة في كلام
الأعراب.
12-
كتاب المجنبة في
الأجوبة.
13-
كتاب الواسطة في
الخطب.
14-
كتاب المجنبة الثانية
في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة.
15-
كتاب العسجدة الثانية
في الخلفاء وتواريخهم وأيامهم.
16-
كتاب اليتيمة الثانية
في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة.
17-
كتاب الدرة الثانية
في أيام العرب ووقائعهم.
18-
كتاب الزمردة الثانية
في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه.
19-
كتاب الجوهرة الثانية
في أعاريض الشعر وعلل القوافي.
20-
كتاب الياقوتة
الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه.
21-
كتاب المرجانة
الثانية في النساء وصفاتهن.
22-
كتاب الجمانة الثانية
في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين.
23-
كتاب الزبرجدة
الثانية في طبائع الإنسان وسائر الحيوان وتفاضل البلدان.
24-
كتاب الفريدة الثانية
في الطعام والشراب.
25-
كتاب اللؤلؤة الثانية
في الفكاهات والملح.
ويذكر
ابن عبد ربه في مقدمته أنه قسم كل كتاب إلى جزئين فأصبحت جواهر العقد خمسون جزءاً()،
لكن المتتبع لذلك لا يخلط أنه يميز الأجزاء بعضها عن بعض إلا في بعض جواهر العقد
وليس كلها مثل: كتاب الفريدة الثانية في الطعام والشراب حيث قال: وهذا الكتاب
جزءان جزء في الطعام وجزء في الشراب().
ويحسن
بنا أن نلقي الضوء على موضوعات الكتاب كما يلي:
1-
كتاب اللؤلؤة في
السلطان():
وتطرق
فيه للصفات الواجب توفرها في من يتولى السلطة، وتحدث عن حاشية السلطان ونصيحتهم له
وتطرق لآداب معاملتهم للسلطان، ثم تطرق لهذه الحاشية وتحري السلطان في اختيارهم،
انتقل بعد ذلك لموضوع مهم آخر وهو حسن السياسة مع الرعية وكيف يجب أن تكون وأورد
في ذلك أمثلة كثيرة كقول أردشير لابنه: "إن الملك والعدل أخوان لا غنى
بأحدهما عن صاحبه فالملك أُس والعدل حارس، وما لم يكن له أسّ فمهدوم وما لم يكن له
حارس فضائع، يا بني اجعل حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرَك لأهل
الدين، وسرَّك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول"()،
وكذلك قول عبد الملك بن مروان لبنيه: "كلكم يترشح لهذا الأمر ولا يصلح له
منكم إلا من كان له سيف مسلول، ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب"()،
وكذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا يصلح لهذا الأمر إلا الليِّن في
غير ضعف، والقوي في غير عنف"()،
بعد ذلك انتقل للحديث في موضوع مهم في هذا المجال وهو صفات الإمام العادل،
والمستغرب هو تأخر مثل هذا الموضوع لأنه في سياق السرد يجب أن يتحدث عنه في بداية
الكتاب، وركز هنا على التواضع الذي يجب أن يتحلى به السلطان مما يكسبه المزيد من
الهيبة، ثم تعرض لموضوع مهم آخر وهو عن أدب مخاطبة السلطان وكيفية الحديث معه، ثم
تحدث عن الحلم الذي يجب أن يكون عليه السلطان ومجال هذا هو صفات السلطان فكأنه
يعود إليها بعد أن تركها، وختم كتابه هذا بحديثه عن الشورى ولكن بشكل مختصر
تماماً.
2-
كتاب الفريدة في
الحروب():
وأول
ما بدأ به هو كيف وصف القادة والشعراء الحروب وكيف نظروا إليها، ثم تحدث عن
الشجاعة عند بعض من الذين اشتهروا بها: كعنترة، وتحدث عن أشهر فرسان العرب في
الجاهلية والإسلام، ثم يتحدث عن وصف الخيل وأورد في ذلك شعراً كثيراً كقوله في وصف
الفرس:
ويخضر
حيناً كلما بلها الرشحُ
|
|
ومُقْربة
يشقر في النقع كمتها
|
وتسبح
في البر الذي ما به سبحُ()
|
|
تطير
بلا ريش إلى كل صيحة
|
وقول
عدي بن الرقاع:
كأن
آذانها أطراف أقلام([58])
|
|
يخرجن
من فرجات النقع دامية
|
وقول
امرؤ القيس:
وإرخاء
سرحان وتقريب تتفل
|
|
له
أيطلا ظبي وساقا نعامة
|
كجلمود
صخر حطه السيل من علِ([59])
|
|
مكر
مفر مقبل مدبر معاً
|
ثم
تطرق لوصف السيف، ثم ذكر أشهر الرماة، وخصص باباً عن مداراة العدو ويميل إلى أن
العدو الذي لا تستطيع مجابهته من الأفضل مداراته، وتحدث أخيراً في هذا الكتاب عن
بعض شجعان الخوارج وفرسانهم وأخبارهم: كحوثرة بن الأقطع ومرداس بن أبي بلال...
إلخ.
3-
كتاب الزبرجدة في
الأجواد والأصفاد():
والمقصود
بالأصفاد الأعطيات، وأول ما بدأ به هنا هو مدح الكرم والجود وذم البخل، ثم يتناول
كتمان الحوائج وحث عليه، ثم تعرض بشيء من التفصيل عن الوفاء بالوعد، بعد ذلك أورد
بعضاً من طرائف أبي دلامة()
وليس من يعرف مؤكدا سبب إيراد مثل هذه الطرائف في هذا الموضع بالرغم من أنه ليس بمجال
للحديث عن الطرائف فهذا مستغرب تماماً، لكن التفسير المعقول لإيراد هذه الطرائف هو
ما يترتب عليها من أعطيات لأبي دلامة تدل على كرم هؤلاء الذين يعطونه، ثم عرّج
بالحديث على طلب بعض الرجال بلطف من الأمراء متخذاً ذلك كمدخل للحديث عن أجواد
العرب في الجاهلية والإسلام.
4-
كتاب الجمانة في
الوفود():
وفيه
تحدث عن الوفود وأول ما بدأ به هو الحديث عن وفود العرب على كسرى، ثم تناول
بالحديث الوفود على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الوفود على أبي بكر وعمر رضي
الله عنهما وهكذا، وبعد أن انتهى من الحديث عن الوفود يتحدث عن الوافدات وذكر بعض
القصص في ذلك.
5-
كتاب المرجانة في
مخاطبة الملوك():
وموضوع
هذا الكتاب سبق أن تناوله في كتاب اللؤلؤة في السلطان ولكن بشكل مقتضب تماماً، ثم
ما لبث أن توسع فيه في هذا الكتاب فتحدث فيه عن آداب مخاطبة الملوك ومال إلى أنه
لا بد من البيان والبلاغة في ذلك، ثم ذكر صوراً من مدح الملوك والتزلف إليهم، ثم
تطرق طويلاً للحديث عن استعطاف واستجداء الملوك ويذكر في ذلك روايات كثيرة جداً
وهذا يعني أنه يؤيد ذلك كثيراً ويقف معه بل وأورد في ذلك روايات كثيرة ليلفت
الانتباه لنفسه أملاً في أعطيات الأمراء وليبرر ضمناً استعطافه للأمراء وليجد
العذر لنفسه في استجداء الأمراء في أنه ليس أول من يستجدي فهو يسير على خطى من سبق
في ذلك.
6-
كتاب الياقوتة في
العلم والأدب():
وتحدث
فيه عن الحث على طلب العلم وفضله وآداب طالب العلم، ثم تحدث عن العقل وأورد فيه
روايات كثيرة، وعن الحكمة وذكر بعضاً من الحكماء كقس بن ساعدة وبعضاً من حكمهم، ثم
تكلم عن البلاغة ووجوهها وكيف تكون، ثم تناول بالحديث المروءة وكيفيتها، ثم تحدث
عن الصداقة وصفات الصديق وكيفية معرفة الصديق وتفضيل الصداقة على القرابة، ثم
تناول الحسد وعلاماته ثم السعاية والبغي ثم الغيبة ثم ذم الزمان ثم الكبر والتسامح
والتواضع ثم الرفق والأناة وهكذا يستمر في سرد الآداب.
7-
كتاب الجوهرة في
الأمثال():
وخير
ما بدأ به هي أمثال الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تحدث عن أمثال وردت على ألسنة
العلماء، ثم تناول أمثلة العرب في مجالات متعددة مثل: حفظ اللسان وإكثار الكلام
والصمت والصدق والكتمان وإنجاز الوعد وخلفه والمكر واللهو والباطل، كما أورد
أمثالاً في مكارم الأخلاق.
8-
كتاب الزمردة في
المواعد والزهد():
وبدأه
بمواعظ الأنبياء عليهم السلام وذكر منها نماذجاً متعددة، ثم وقف عند مواعظ الحكماء
والمكاتبات التي جرت بين الحكماء، ثم مواعظ الآباء للأبناء، ثم انتقل للموضوع
الآخر وهو الزهد وكيف يكون، ثم انتقل للأقوال في الخوف وفي الرجاء وفي التوبة وكيف
تكون وعلاماتها، ثم تحدث عن الأقوال في الموت والطاعون والتهجد والابتلاء والقناعة
والرضا بقضاء الله وقدره والدعاء.
9-
كتاب الدرة في
النوادب والتعازي والمراثي():
وأول
ما بدأ به هو ما يقال عند الموت، ثم البكاء على الميت، والوقوف على القبور والرثاء
وأمثلة عليه كمن يرثي نفسه أو ابناً أو أخاً ونحو ذلك، ثم تحدث غير مطيل عن
التعازي.
10-
كتاب اليتيمة في
النسب وفضائل العرب():
وتناول
هنا أنساب العرب فعرض لأصول العرب ولقبائلهم وأصولها وتفرعاتها فتناول قبيلة قريش
ومضر وأسد وتغلب وبكر بن وائل وقضاعة وخزاعة وهمدان وطيء وخلافها من قبائل العرب
وذكر لمن تنتسب هذه القبائل وشيئاً من أخبارها وميزاتها وفضائلها.
11-
كتاب العسجدة في كلام
الأعراب():
وبدأ
بأقوال العرب وفصاحتهم في الدعاء ثم أقوالهم في طلب الطعام وفي الزهد بالدنيا وفي
الذم والهجاء وفي النوادر والمُلح.
12-
كتاب المجنبة في
الأجوبة(): وأورد هنا ردوداً تمت
بين متحاورين وركز على الردود البليغة وما يصحبها من حسن البديهة ، كمحاورة بين
معاوية وعقيل بن أبي طالب()
، ومحاورة بين معاوية وابن
عباس()
ومحاورة بين عدي بن حاتم ومعاوية().
13-
كتاب الواسطة في
الخطب():
وفيه
تطرق للخطب المشهورة وفرق بينها وبين الأجوبة التي أوردها في كتاب العسجدة وركز في
التفريق بينها أن الخطب تتم بعد تحضير وتهيئة أما المحاورات فللبداهة دور كبير
فيها، وخير ما بدأ به هذا الكتاب هي خطبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع،
ثم تطرق لخطب أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب
ومعاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنهم- وبقية الخلفاء
الذين جاءوا من بعدهم، ثم عرّج على خطب مشهورة لخطباء مشهورين مثل: البتراء لزياد
بن أبيه وغيرها من خطبه، وخطب عبدالله بن الزبير، وخطب الحجاج وقطري بن الفجاءة
وغيرهم كثير.
14-
كتاب المجنبة الثانية
في التوقيعات والفصول والصدور الكتابة وأخبار الكتبة():
وفيه
تحدّث عن الكتاب الذين كانوا يكتبون للخلفاء، ثم تحدث عن صفات الكاتب، كما تحدث عن
توقيعات الخلفاء والأمراء والمقصود بها ما كانوا يذيلون به خطاباتهم فمثلاً: وقّع
علي بن أبي طالب لطلحة بن عبيد الله -رضي الله عنهما-: "في بيته
يؤتي الحكم"()،
وأيضاً وقع يزيد بن معاوية إلى عبيد الله بن زياد: "أنت أحد أعضاء ابن عمك،
فاحرص أن تكون كلها"()،
كما وقع عمر بن عبدالعزيز عندما أتاه كتاب عدي بن أرطأة يخبره بسوء طاعة أهل
الكوفة: "لا تطلب بطاعة من خذل علياً، وكان إماماً مرضياً"().
15-
كتاب العسجدة الثانية
في الخلفاء وتواريخهم وأيامهـم():
وبدأ
هذا الكتاب بالحديث عن السيرة النبوية ولكن بشكل مختصر جداً لا يتعدى نسب الرسول -صلى الله عليه وسلم- وولده وأزواجه،
ولا يبدو للباحث سبب وجيه يجعله يتحدث بهذا الشكل المختصر جداً عن السيرة، إلا أنه
يقال أن كتب السيرة لم تكن متوفرة بشكل كبير في الأندلس ولكن هذا الرأي ضعيف لأن
الحديث في السيرة لا يقتصر على كتب السيرة نفسها بل يتعدى ذلك إلى كتب الحديث
والتفسير والأخبار وكتب الأدب وغيرها. ثم
تناول وبشكل مركز الخلافة الراشدة، ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، ثم عاد
للاختصار مرة أخرى بحديثه عن الدولة الأموية في الأندلس وهذا مستغرب جداً لأن
الأندلس هي بلد المؤلف، ولكن قد يخطر بالبال أن كتاب العقد موجه للأندلسيين وتاريخ
الأندلس معلوم ومعروف لديهم ولا يحتال إلى الحديث فيه.
16-
كتاب اليتيمة الثانية
في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة():
وخصص
لهذه الأخبار جوهرة من جواهر عقده للأهمية التي أخذتها أخبارهم لما صاحب هؤلاء من
أحداث حظيت بأهمية عظيمة في الدولة الإسلامية، وتعرض لأخبارهم بالتتابع دون أن
ينفرد بذكر روايات غريبة.
17-
كتاب الدرة الثانية
في أيام العرب ووقائعهم():
وهنا
تعرض لأيام العرب في الجاهلية وحروبهم فيما بينهم بل وتعدى ذلك للحديث عن حروبهم
مع الفرس كيوم ذي قار، وتناول المؤلف هذه الوقائع باختصار وسهولة بل وتحري شديد في
مصداقية الوقائع، والمجال هنا لا يصلح للحديث عن هذه الأيام للكثرة التي أوردها
بها إذ بلغ عدد ما تحدث عنه نحو مائة يوم فهو لم يترك في ذلك شاردة ولا واردة إلا
ذكرها.
18-
كتاب الزمردة الثانية
في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه():
وهذا
الكتاب هو كتاب أدبي بحت تطرق فيه لأفضل ما قالت العرب من الشعر، وفيه تحدث عن
المعلقات وذكر وجهات نظر العامة في أشعر الشعراء وأفضل الشعر في الغزل والمدح والهجاء،
ثم تناول موضوعاً مهماً جداً وهو النواحي السلبية التي يحملها الشعر والنواحي
الجميلة التي يصبغها الشعر بصبغة قبيحة، ثم ذكر نماذج للشعر في نواحي شتى مثل
النحول والتوديع والحمام والرياض ونحوها.
19-
كتاب الجوهرة الثانية
في أعاريض الشعر وعلل القوافي():
وهذا
الكتاب يتعلق بعروض وبحور الشعر.
20-
كتاب الياقوتة
الثانية في علم الألحان واختلاف الناس فيه():
ويبدو
أن ولع ابن عبد ربه بالغناء جعله يفرد له جوهرة من جواهر العقد، وأول ما بدأ به هو
الخلاف حول مشروعية الغناء وهو يميل بل ويرى جواز الغناء.
21-
كتاب المرجانة
الثانية في النساء وصفاتهن():
وبدأ
بذكر حوادث عن نكاح بعض من النساء كيف تم، ثم تحدث عن صفات النساء التي يجب أن
تتوفر بهن وعن أخلاقهن، ثم تحدث عن المرأة السوء وكيف تعرف، ثم تحدث عن قضايا
مختلفة في النساء فتحدث عن المنجبات منهن وتحدث عن الطلاق وتحدث عن السراري والهجناء()
والأدعياء().
22-
كتاب الجمانة الثانية
في المتنبئين والممرورين والبخلاء والطفيليين():
وهذا
الكتاب تحدث فيه عن هذه الأصناف فتناول فيه أخباراً عن الممرورين والمجانين
ومجانين القصاص وأهل الجهل والمشبهين بالمجانين وشعراء المجانين ونماذج لأشعارهم
وأخبار البخلاء وطعامهم وأخبار الطفيليين، والكتاب ذو طابع ظريف.
23-
كتاب الزبرجدة
الثانية في طبائع الإنسان وسائر الحيوان وتفاضل البلدان():
وهنا
تناول بالحديث طبائع الإنسان السوي وتحدث عن الحيوانات وأنواعها ومهاراتها
ومصائدها، ثم تحدث عن البلاد وصفاتها، ثم تحدث عن نتف من الطب كالتعويذ والرقي
والحجامة والكي والسم والسحر والعين والهدايا وقد أورد هذه الأمور هنا لأنه
اعتبرها من طبائع الإنسان.
24-
كتاب الفريدة الثانية
في الطعام والشراب():
وتحدث
هنا عن أطعمة العرب وأسماؤها وصفة الطعام وفضله وآداب الأكل والطعام، وتحدث عن
موضوعين مهمين في الطعام وهما الحمية والبطنة، ثم تحدث عن الخمر وعن تحريمها ويضع
الفروق بينها وبين النبيذ ويخلص إلى أن الخمر محرمة لكن النبيذ دون ذلك لأنه لا
يرقى إلى مستوى الخمر.
25-
كتاب اللؤلؤة الثانية
في الفكاهات والملح():
والكتاب
من عنوانه يتضح أنه يتطرق لنوادر العرب وأصحاب النكت والفكاهات كأشعب والأعمش
وغيرهما ويذكر نماذجاً متعددة وحكايات كثيرة عنهم.
2-
مــنــهــجــــه: اتبع ابن عبد ربه منهج الإخباريين في
سرد الوقائع والأحداث، ويتضح ذلك من خلال القراءة الدقيقة في كتاب العقد الفريد،
وسنعرض هنا لأبرز ما في منهجه:
1-
حذف الأسانيد:
وقد
برر ذلك بأنه من أجل التخفيف على القارئ فلا فائدة من ذكر الأسانيد طالما أن ما
يرد في الكتاب هو أخبار وحكم ونوادر فالفائدة تحصل منها بذكر الإسناد أو بحذفه، ثم
دافع عن موقفه هذا بأن بعض السلف قد حذف السند في أحاديث يترتب عليها قضايا
تشريعية()،
وهو رأي معقول، ونحن يهمنا ما يتعلق بالجزء التاريخي فالإسناد يجعل القارئ يمل من
تكراره، ومع أنه اتبع أسلوب حذف الأسانيد إلا أنه أحياناً كان يذكر بعض الأسانيد،
ومن ذلك حديث: "مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس" فإسناده: عن شعبة عن سعد
بن إبراهيم عن عروة عن عائشة()،
وكذلك عزل عثمان لعبدالله بن مسعود عن بيت مال الكوفة عندما فُقِد منه مائة ألف
وسنده: عن ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبدالله بن سنان()،
كما أنه سكت عن أسانيد أحاديث كثيرة استشهد بها وهي موضوعة منها: "ما ندم من
استشار ولا شقي من استخار"()
وحديث: "لو جمعت خيل العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر"()
وحديث: "أقرب ما يكون المرء من غضب الله إذا غضب"()
وحديث: "يا حميراء كأني بك ينبحك كلاب الحوأب، تقاتلين علياً وأنت له
ظالمة"()،
وهناك كم كبير من الأحاديث المذكورة في الكتاب وهذا يضع علامة استفهام ما مصدر هذه
الأحاديث؟ ولماذا استشهد بها وهي
موضوعة؟ ولماذا لم يحذف هذه الأحاديث بعد
توبته؟ والغريب أنه يذكر أحياناً أسانيد
جميع الروايات التي يذكرها في الموضوع فمثلاً في قضية مقتل عمار بن ياسر رضي الله
عنه يذكر جميع أسانيد الروايات التي أوردها والمتعلقة بهذه الحادثة().
2-
اتبع في كتابه المنهج
الموضوعي:
إذ
يتناول الموضوع بكافة تفاصيله حسب التسلسل التاريخي ومن ذلك أخبار زياد بن أبيه
فقد تناولها من ولادته وحتى وفاته()
وكذلك أخبار الحجاج بن يوسف الثقفي من مولده وحتى وفاته().
3-
لا يذكر مصادره
أحياناً:
أسقط
ابن عبد ربه في رواية عدة قصص وأخبار ذكرها في " العقد الفريد " ومن هذه
المصادر كرواية إرسال علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- لجرير بن عبدالله
لأخذ البيعة من معاوية بن أبي سفيان()،
وكذلك مكاتبات علي ومعاوية بعد الجمل()،
وكذلك رواية سجود معاوية عندما سمع بموت الحسن بن علي وتعزيته لابن عباس مستبشراً().
4-
سكوته عن أحداث
تاريخية مهمة في أثناء عرضه للأحداث والوقائع مثل:
أثر
عبدالله بن سبأ في مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه بل إنه لم يذكر اسمه إطلاقاً()
وهو أمر غريب جداً فلا يكاد يخفى على أحد أثر عبدالله بن سبأ في قتل عثمان بن رضي
الله عنه لكنه مع ذلك يقول: "أن المغيرة بن سعد وهو من السبأية الذين أحرقهم
علي"()
وهذا دليل على علمه بهؤلاء السبأية وما كانوا يعتقدون وهذا يدل على أن أخبارهم قد
وصلت إليه بطريقة أو أخرى، ولا يجد الباحث تفسيراً لذلك إلا أنه قد يكون هناك
أجزاء فقدت من كتاب العقد الفريد تحدث فيها عن أثر عبدالله بن سبأ، كذلك أخبار
الجعد بن درهم وثورته لم يعرض لها إطلاقاً وهي مشهورة تماماً ولم يشر إليها ومحنة
الإمام أحمد أيضاً()،
كذلك نكبة البرامكة لم يذكر عنها شيئاً والخلاف بين الأمين والمأمون ويبدو أن
سكوته عن هاتين الحادثتين أنهما من شؤون الدولة العباسية وهو أموي الولاء فلم يلقِ
لهما بالاً أو أن أجزاءً من الكتاب قد فقدت تتعرض لهما.
5-
يورد الروايات على
شكل أخبار دون أن يعلل أو يرجح أو يبدي رأيه إلا فيما ندر فكأنه يترك الحكم
للقارئ:
ومن
ذلك حديثه عن خلافة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وأحداث السقيفة()
ذكر الروايات التي وقعت يده عليها دون أن يعلل أو يبرر أو يبدي رأياً فيها وإنما
أوردها كما وصلت إليه، كذلك في أمر الشورى في خلافة عثمان بن عفان -رضي الله عنه-()
اكتفى بسرد الروايات الواردة فيها، وكذا الأمر في حديثه عن يوم الجمل()
اكتفى بسرد الروايات دون أن يغلب أيّاً منها على أخرى أو يرجح أو يبدي رأياً فيها،
وكذلك في حديثه في طلب معاوية -رضي الله عنه- البيعة ليزيد()
سرد كيف تم الأمر بحذافيره دون أن يعلل أو يبدي رأيه في الأمر أو جزئية منه.
ولكن
مع أن هذا الاتجاه غالب عليه إلا أن هناك قضايا أبدى فيها رأيه ولكنها قليلة جداً
منها: في حديثه عن أثر الحزن الذي تركه موت الصديق رضي الله عنه في المدينة يقول:
"ولما قبض أبو بكر سجّي بثوب، فارتجت المدينة من البكاء، ودهش القوم كيوم قبض
رسول الله صلى الله عليه وسلم"() ورأيه
هنا أنه يشبه الحزن الذي أعقب وفاة الصديق –رضي الله عنه- بالحزن والذهول الذي
أعقب وفاة النبي –صلى الله عليه وسلم-، كذلك أبدى رأيه في ما نقمه الناس على عثمان
واستنتجها حسب قوله كما يلي: "ومما نقم الناس على عثمان: أنه آوى طريد رسول
الله صلى الله عليه وسلم الحكم بن أبي العاص –ولم يؤوه أبو بكر ولا عمر– وأعطاه
مائة ألف، وسيّر أبا ذر إلى الربذة، وسير عامر بن عبد قيس من البصرة إلى الشام،
وطلب منه عبدالله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربع مائة ألف، وتصدق رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمهزون –موضع سوق في المدينة- على المسلمين فأقطعها الحرث بن الحكم
أخا مروان، وأقطع فدك مروان، وهي صدقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وافتتح
إفريقية فأخذ خمس الفيء فوهبه لمروان"()
، ورأيه هنا أنه استطاع أن يتوصل للعوامل التي جعلت الثوار يقومون ضد عثمان –رضي
الله عنه- مجتمعة وغيره قد يذكر بعضاً ويترك بعضاً.
6-
لا يهتم بتدوين
تواريخ الأحداث التاريخية:
وقد
يكون ذلك راجع للنزعة الأدبية في كتاباته، ومن الأمثلة في ذلك: لم يذكر متى كانت
مبايعة مروان بن الحكم بالخلافة()،
ومقتل مصعب بن الزبير()،
ومقتل زيد بن علي إلا ما ذكره أنه في أيام هشام بن عبدالملك()،
كذلك في أخبار الدولة العباسية لم يذكر سنة قيامها()،
وغير ذلك كثير من الأحداث.
3-
مـــــــصـــــــادره
تعددت
مصادر ابن عبد ربه في العقد الفريد فكان عددها كبيراً، وكانت هذه المصادر ما بين
مصادر رئيسة اعتمد عليها كثيراً وثانوية أخذ منها قليلاً وانتقى أخباراً مميزة
منها، كما تنوعت مصادره فنقل عن الإخباريين مثل: الهيثم بن عدي وأبو عبيدة معمر بن
المثنى، والمحدثين مثل: أبي بكر بن أبي شيبة، والمؤرخين مثل: المدائني وابن قتيبة،
والأدباء مثل: الأصمعي والجاحظ وغير هؤلاء كثير، وسنتعرض بالحديث عن مصادره ولن
تفيض أو نطيل فيها لكثرتها:
1-
أبو بكر بن أبي شيبة:
وهو
عبدالله بن محمد بن إبراهيم الكوفي الحافظ()
الثقة صاحب التصانيف توفي سنة 235هـ()،
عرف به القيسراني: بالحافظ عديم النظير الثبت صاحب المسند والمصنف()،
كما عرف به الذهبي: بالإمام العلم سيد الحفاظ وصاحب الكتب الكبار: المسند والمصنف
والتفسير من أقران أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وعلي بن المديني في السن والمولد
والحفظ()،
قال فيه العجلي: ثقة حافظ وقال فيه صالح بن محمد: أحفظهم للحديث عند المذاكرة أبو
بكر بن أبي شيبة()،
وقال عمرو الفلاس ما رأيت أحداً أحفظ من أبي بكر بن أبي شيبة قدم علينا مع علي بن
المديني فسرد للشيباني أربع مائة حديث حفظاً وقام، وقال أحمد بن حنبل: أبو بكر
صدوق، وقال يحيى بن معين: أبو بكر عندنا صدوق()،
وقد روى عنه البخاري ومسلم وأبو داوود وابن ماجه وبقي بن مخلد()
وأحمد بن حنبل وأبو زرعة ومحمد بن وضاح(). له من المؤلفات: كتاب السنن في الفقه، وكتاب
التفسير، وكتاب التاريخ، وكتاب الفتن، وكتاب صفين، وكتاب الجمل، وكتاب الفتوح،
وكتاب المسند في الحديث().
وقد
نقل ابن عبد ربه عن هذا المحدِّث الكثير من الروايات مثل: رواية الأحنف بن قيس
عندما قدم المدينة في طريقه إلى الحج فتنبأ -رضي الله عنه- لطلحة والزبير رضي الله
عنهما بأن عثمان رضي الله عنه سيقتل ثم سألهما من يقترحا عليه مبايعته إن قُتِل
عثمان فقالا: علي، ثم سأل الأحنف أم المؤمنين عائشة من ترضى له أن يبايع إن قُتِل
عثمان فقالت علي، ثم رجع إلى البصرة، وما لبث أن جاءت عائشة وطلحة والزبير
يستنصرون على دم عثمان لأنه قتل مظلوماً، فجاءهم الأحنف فأخبروه أنهم يستصرخون على
دم عثمان لأنه قتل مظلوماً، فناقشهم في ما قالوا سابقاً ثم اتخذ القرار باعتزال
الطرفين فسكتوا عنه(). كما أورد عن أبي بكر بن أبي شيبة: أن مروان بن
الحكم لما رأى طلحة بن عبيد الله يوم الجمل قال: لا انتظر بعد اليوم بثأري في
عثمان فانتزع له سهماً وقتله()،
كما أورد عنه أن عبد الله بن الزبير قال: التقيت مع الأشتر يوم الجمل فما ضربته
ضربة حتى ضربني خمسة أو ستة ثم جر برجلي فألقاني في الخندق وقال: والله لولا قربك
من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما اجتمع فيك عضو إلى آخر(). كما أورد عنه رواية أن عائشة قد أعطت من بشرها
بحياة ابن الزبير إذا التقى الأشتر يوم الجمل أربعة آلاف(). كما أورد عنه: أن علي قد سئل عن أصحاب الجمل:
أمشركون هم؟ فقال: من الشرك فروا، ثم سئل
فمنافقون هم؟ فقال: إن المنافين لا يذكرون
الله إلا قليلاً، ثم سئل فما هم؟ قال:
إخواننا بغوا علينا()،
كما أورد عنه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد خرج من الكوفة إلى معاوية في
خمسة وتسعين ألفاً، وخرج معاوية من الشام في بضعة وثمانين ألفاً فالتقوا بصفين،
وكان عسكر علي يسمى الزحزحة لشدة حركته، وعسكر معاوية يسمى الخضرية لاسوداده
بالسلاح والدروع().
2-
أبو معشر:
هو
الإمام المحدِّث صاحب المغازي نجيح بن عبدالرحمن السندي ثم المدني ويقال أن أصله
حميري()، قيل
أنه روى عن سعيد بن المسيب()،
قال عنه يحيى بن معين: ليس بقوي كان أمياً يتقى من حديثه المسند()
وقال عنه أيضاً: أبو معشر ضعيف()،
وقال عنه البخاري: منكر الحديث()
وقال أبو داوود: ضعيف()،
وقال النسائي: ضعيف(). وقد نقل ابن عبد ربه عن أبي معشر كثيراً من
الروايات منها رواية من قتل من بني هاشم مع الحسين بن علي -رضي الله عنه- وكان
عددهم سبعة عشر رجلاً()،
كما نقل عن أبي معشر رواية اختيار الحجاج لقتال عبدالله بن الزبير()،
وكذلك نقل عنه أن الحجاج بعد مقتله لعبدالله بن الزبير أرسل برأسه إلى المدينة
ونصبه فجاءت أسماء بنت أبي بكر وطلبت منه أن يعطيها رأس عبدالله كي تدفنه فرفض
الحجاج وأرسل الرأس إلى عبدالملك بن مروان().
3-
الرياشي:
هو
أبو داود عباس بن الفرج الرياشي أبو الفضل البصري النحوي مولى محمد بن سليمان بن
علي بن عبدالله بن عباس()،
سمع من طائفة كثيرة من العلماء وروى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي()،
ذكره ابن حبان في الثقات وقال كان راوياً للأصمعي()،
قتله الزنج بالبصرة سنة سبع وخمسين ومائتين(). وقد نقل ابن عبد ربه عن الرياشي روايات كثيرة
منها رواية مقتل عثمان بن عفان -رضي الله عنه- وأسماء القادة الذين اتجهوا إليه
وهم عبدالرحمن بن عديس البلوي وحكيم بن جبلة العبدي والأشتر النخعي فدخلوا عليه
والمصحف بين يديه فقتلوه(). كما نقل عنه قول محمد بن الحسين بن علي أنه بعد
مقتل الحسين بن علي رضي الله عنه أتي باثني عشر غلاماً من آل الحسين فأدخلوا على
يزيد بن معاوية فقال: "لهم أحرزت أنفسكم عبيد أهل العراق، وما علمت بخروج أبي
عبدالله ولا بقتله"(). كما نقل عنه أن عبدالملك بن مروان لما أتي رأس
مصعب بن الزبير نظر إليه ملياً وقال: متى تلد قريش مثلك؟! وقال: هذا سيد شباب قريش().
4-
الأصمعي:
واسمه
عبدالملك بن قريب بن عبدالملك بن علي بن أصمع()
عرف به الذهبي بأنه الحافظ حجة الأدب لسان العرب اللغوي الإخباري()،
كان قليل الرواية للمسندات()،
كما كان يتقي أن يفسر القرآن()،
ومع ذلك فقد تعرض له رجال الجرح والتعديل وأبدوا رأيهم فيه، فقال أبو داوود: صدوق،
وقال الأزدي: ضعيف الحديث()،
وقال يحيى بن معين: لم يكن يكذب وكان أعلم الناس في فنه()،
وهو الأدب، وقال الإمام الشافعي: ما عبر أحد عن العرب بأحسن من عبارة الأصمعي()،
وكان الأصمعي حافظاً لأشعار العرب يقول عمرو بن شبة: سمعت الأصمعي يقول: أحفظ ستة
عشر ألف أرجوزة()،
كما كان الأصمعي إخبارياً بارعاً كما هو في اللغة والأدب، قال الشافعي: ما رأيت
بذكر العسكر أصدق لهجة من الأصمعي()،
له الكثير من المؤلفات في معظمها مختصرة وأكثرها مفقودة()،
ومنها: كتاب الأجناس، وكتاب الفرق، وكتاب الصفات، وكتاب الأخبية والبيوت، وكتاب
السلاح، وكتاب جزيرة العرب، وكتاب الخراج، وكتاب النوادر، وكتاب الاشتقاق، وكتاب
الأوقاف().
وقد
نقل عنه ابن عبد ربه الكثير من الروايات منها: أن الأصمعي قال: كنت عند الرشيد إذ
دخل عليه إسحاق الموصلي فأنشده:
فليس
إلى كل ما تأمرين سبيل
|
|
وآمرة
بالبخل قلت لها اقصري
|
ورأي
أمير المؤمنين جميل
|
|
فكيف
أخاف الفقر وأحرم الغنى
|
فأثنى
الرشيد على أبياته وقال يا غلام أعطه عشرين ألفاً، فقال: والله والله ما أخذت منها
درهماً واحداً لأن كلامك والله يا أمير المؤمنين خير من شعري، فقال: أعطوه أربعين
ألفاً، فقال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم الملوك مني()،
كما أورد عنه أن كسرى قال: أي شيء أضر؟
فأجمعوا على الفقر، فقال: الشح أضر منه لأن الفقير يجد الفرجة فيتسع()،
كما أورد عنه رواية القادة الأربعة الذين ساروا إلى المدينة لقتل عثمان ومحاصرتهم
له مع نفر من أهل المدينة وقتله ومحاولتهم قطع رأسه لولا أن ارتمت عليه نساؤه()،
كما أورد عنه أن أعرق الناس في الخلافة هي عاتكة بنت يزيد بن معاوية فأبوها خليفة
وجدها معاوية خليفة وأخوها معاوية بن يزيد خليفة وزوجها عبد الملك بن مروان خليفة
وأبناء زوجها: الوليد وسليمان وهشام خلفاء(). كما أورد عنه أنه لما أتي إلى عبد الملك برأس
مصعب بن الزبير نظر إليه ملياً ثم قال: متى تلد قريش مثلك ثم قال: هذا سيد شباب
قريش()،
كما أورد عنه أن السجون عرضت بعد الحجاج فوجد فيها ثلاثة وثلاثين ألفاً لم يجب على
واحد منهم قتل ولا صلب().
5-
أبو عبيدة معمر بن
المثنى:
هو
الإمام العلامة البحر أبو عبيدة معمر بن المثنى التيمي البصري النحوي()
قال عنه الدارقطني: لا بأس به إلا أنه يتهم بشيء من رأي الخوارج()،
وقال عنه علي بن المديني: كان لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح()،
وقال عنه الجاحظ: لم يكن في الأرض أعلم بجميع العلوم منه()،
وقال عنه المبرِّد: كان هو والأصمعي متقاربين في النحو وكان أبو عبيدة أكمل القوم()،
قيل أن تصانيفه بلغت مائة وعشرة كتب()،
توفي سنة تسع ومائتين وقيل عشر(). وقد نقل ابن عبد ربه عن أبي عبيدة كثيراً من
الروايات منها رواية دخول الشعراء على مروان بن محمد بعد استخلافه ومنهم طريح بن
إسماعيل الثقفي وذو الرّفة ومدحهم له وعطاؤه لهم بسخاء()،
وكذلك رواية اجتماع وفود العرب عند النعمان بن المنذر فأخرج لهم بردين وقال: ليقم
أعز العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى الآخر
فسأله النعمان: بم أنت أعز العرب؟ فقال:
العز والعدد من العرب في معد ثم في نزار ثم في تميم ثم في سعد ثم في كعب ثم في عوف
ثم في بهدلة فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني فسكت الناس().
6-
المدائني:
هو
أبو الحسن علي بن محمد بن عبدالله بن أبي سيف المدائني الإخباري()،
كان مولى لعبد الرحمن بن سمرة()،
سمع من جم غفير من العلماء منهم شيخه قرّة بن خالد وشعبة وجويرية بن أسماء وعوانة
بن الحكم وحماد بن سلمة، كما حدث عن خليفة بن خياط والزبير بن بكار وغيرهم()،
وقد اشتهر بالأخبار والفتوح والمغازي والشعر والأنساب قال عنه يحيى بن معين: ثقة،
ثقة، ثقة، وقال عنه الحارث بن أبي أسامة: كان عالماً بالفتوح والمغازي والشعر
صدوقاً في ذلك()،
أما في مجال الحديث فليس بالقوي()
له كتب كثيرة منها خطب -النبي صلى الله عليه وسلم-، أخبار قريش، تاريخ الخلفاء().
وقد
نقل ابن عبد ربه عن المدائني كثيراً من الروايات منها: ما أورده أنه عندما دخل
هارون الرشيد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وسأل مالك بن أنس أن يصف له مكانة أبي
بكر وعمر عند النبي -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا فقال له: مكانها منه يا أمير
المؤمنين كمكان قبريهما من قبره()،
كما أورد عنه رواية قتل أبي لؤلؤة المجوسي لعمر بن الخطاب -رضي الله عنه-()،
كذلك روايات مقتل عثمان -رضي الله عنه- في حديثه عن مقتل عثمان -رضي الله عنه- كان
أكثرها روايات المدائني()،
كما أورد عنه قوله أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يقسم بيت المال كل جمعه
حتى لا يبقى منه شيئاً()،
كذلك أورد عنه رواية أنه قتل مع الحسين رضي الله عنه ستة عشر من أهل بيته، وحمل
أهل الشام بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا فأدخلن على يزيد فقالت فاطمة
بنت الحسين: يا يزيد أبنات رسول -الله صلى الله عليه وسلم- سبايا؟ قال: بل حرائر كرام ادخلي على بنات عمك تجديهن
قد فعلن ما فعلن، قالت فاطمة: فدخلت إليهن فما وجدت سفيانية إلا متلدِّمة تبكي()،
كذلك رواية أن الوليد أسنّ ولد عبد الملك بن مروان وكان يحبه كثيراً فتراخى في
تأديبه لشدة حبه إياه فكان يلحن في اللغة().
7-
الهيثم بن عدي
هو
الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن الطائي الإخباري العلامة المؤرخ([188])
اشتهر بأخباره([189])
ومع ذلك فقد كان ضعيفاً عند رجال الحديث، قال مجالد: ما أقل ما له في المسند إنما
هو صاحب أخبار، وقال العجلي: كذاب([190])،
وقال البخاري: سكتوا عنه([191])،
وقال يحيى بن معين وأبو داوود: كذاب، وقال النسائي: متروك الحديث([192])،
وقال السعدي: ساقط قد كشف قناعه([193])،
وخلاصة القول فيه ما قاله ابن حبان: لا يجوز الاحتجاج به ولا الرواية عنه إلا على
سبيل الاعتبار([194])،
وقد كتب العشرات من الكتب في الأخبار والتاريخ والأنساب والطبقات منها: كتاب
المثالب، كتاب بيوتات قري، كتاب الدولة، كتاب تاريخ العجم وبني أمية، كتاب
النوافل، كتاب تاريخ الأشراف الكبير، كتاب طبقات الفقهاء والمحدثين، كتاب التاريخ
على السنين، كتاب أخبار الفرس([195]).
وقد
أخذ عنه ابن عبد ربه عنه كثيراً من الروايات نورد لها أمثلة: فيورد عنه أنه لما
انهزم عبد الله بن علي من الشام قدم على المنصور وفد منهم فتكلموا بعبارات التوبة
وقالوا: إن تعاقبنا فقد أجرمنا وإن تعفُ عنا فطالما أحسنت إلى من أساء منا فأمر
برد ضياعهم في الغوطة()،
كذلك أورد عنه أن الحجاج بن يوسف خرج يوماً من القصر بالكوفة فسمع تكبيراً في
السوق فراعه ذلك فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أهل العراق يا أهل
الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق وبني اللكيعة وعبيد العصا وأولاد الإماء والفقع
بالقرقر إني سمعت تكبيراً لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان وإنما مثلي
ومثلكم ما قال ابن براقة الهمداني:
فهل
أنا في ذا يالهمدان ظالم؟
|
|
وكنت
إذا قوم عزوني عزوتهم
|
وأنفاً
حميماً تجتنبك المظالم؟
|
|
متى
تجمع القلب الذكي وصارماً
|
أما
والله لا تقرع عصاً بعصا إلا جعلتها كأمس الدابر()،
كذلك أورد عنه أن معاوية عندما حضرته الوفاة ويزيد غائب دعا الضحاك بن قيس الفهري
ومسلم بن عقبة وطلب منهما أن يبلغا يزيد عنه الحذر من ثلاثة: الحسين بن علي
وعبدالله بن الزبير وعبدالله بن عمر وتوجيهه في معاملته لهم لأنهم سيشكلون العقبة
التي ستقف في طريقه()،
كما أورد عنه قوله: لم يزل لبني هاشم بيعة سر ودعوة باطنة منذ قتل الحسين بن علي
ولم نزل نسمع بخروج الرايات السود من خراسان وزوال ملك بني أمية حتى صار ذلك().
8-
الجاحظ:
وهو
العلامة المتبحر ذو الفنون أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب البصري()،
كان من بحور العلم له تصانيف كثيرة جداً، وعرف بقوة حفظه لكنه كان ماجناً قليل
الدين له نوادر()،
قال عنه ثعلب: ليس ثقة ولا مأمون()،
وقال عنه النووي: مغموص عليه في دينه()
وقال عنه الذهبي: كان من أئمة البدع()
وهو ما قاله ابن حجر().
وقد
نقل عنه ابن عبد ربه كثيراً من الروايات نورد لها أمثلة: فقد أتي روح بن حاتم برجل
كان يتلصص في موضع في جبال مكة فأمر بقتله إلا أن اللص دافع عن نفسه بأن له يد
بيضاء عنده فقال: ما هي؟ فقال: أنه جاء
يوماً إلى مجمع مواليهم والمجلس ممتلئ فلم يوسع له أحد فقام الرجل من مكانه حتى
جلس فيه روح، عندئذٍ أمر روح بإطلاقه وولاه الناحية()،
كما أورد له مقولة مطولة في ذم الزمان()،
كما يذكر له أقوالاً في أدب الأكل()،
كذلك يذكر له مقولة في فضائل المال().
وقد
تطور الأمر عند ابن عبد ربه أنه خصص للجاحظ عنواناً: "فصول لعمرو بن بحر
الجاحظ" في كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة
وأورد فيها كثيراً من أقواله().
الفصل
الخامس: نـــقـــد الكتـابـة التاريخيــة عنـد ابن عبد ربـه
1-
رأي المؤرخين
فيه.
2-
أثر النزعة
الفكرية على كتاباته التاريخية.
3-
القيمة العلمية
لكتاباته التاريخية.
4-
أثره على
المؤرخين من بعده.
أ- رأي المؤرخين فيه
سنعرض هنا لآراء المؤرخين في ابن عبد
ربه وسنتناولها بالنقد والتحليل، وهي لم تقع تحت اليد إلا القليل من الآراء سنعرض
لها كما يلي:
1-
الفتح بن خاقان:
الأندلسي وهو صاحب كتاب "مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس"،
وقد قال في ابن عبد ربه: "عالم ساد بالعلم ورأس واقتبس به من الحظوة ما اقتبس
وشهر بالأندلس حتى سار إلى المشرق ذكره واستطار شرر الذكاء فكره وكانت له عناية
بالعلم وثقة ورواية له متسقة، أما الأدب فهو كان حجته وبه غمرت الأفهام بحته مع
صيانة وورع وديانة، ورد ماءها فكرع وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد وحماه من
عثرات النقد لأنه أبرزه مثقف القناة مرهف الشباة تقصر عنه ثواقب الألباب وتبصر
السحر منه في كل باب وله شعر انتهى منتهاه وتجاوز سماك الإحسان وسماه"().
ورأي
الفتح بن خاقان هذا يحمل ثلاثة أبعاد رئيسة فهو يعرض أولاً: للناحية العلمية عند
ابن عبد ربه فيظهر أنه قد تزود بالعلم فبلغ منه شأواً عظيماً وطبقت شهرته الآفاق
في الأندلس وفي المشرق الإسلامي ولو لم يكن من الموثوق بهم في الرواية لما بلغ هذه
المكانة، وثانياً: في مجال الأدب يرى أنه أصبح حجة ولا يشق له غبار في ذلك، وكان
الأجدر به أن يعقب على ذلك بشاعرية ابن عبد ربه ولكنه لم يفعل لأنه يبدو أنه اعتبر
الشعر من ضروب الأدب لكنه لم يهمل شاعريته فما لبث أن عاد لمدح شعره بعد مدحه
لكتاب العقد الفريد، وثالثاً: تناول الحدث الأبرز عند ابن عبد ربه وهو كتاب العقد
الفريد مادة بحثنا الرئيسة وأبدى شهرة الكتاب وبين أن هذه الشهرة لأنه برع في
تأليفه وتصنيفه بذكاء شديد حتى أنه لم يدع مجالاً لنقده ومن يحاول نقده فلن يفلح
في ذلك فالكتاب على مقاييس عصر ابن خاقان في التأليف يتجاوز النقد فليس فيه ثغرة
تستطيع أن تنفذ من خلالها لنقده حسب رأي ابن خاقان.
2-
ابن خلكان:
صاحب كتاب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان وقد قال عن ابن عبد ربه: "كان
من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس وصنف كتابه العقد وهو
من الكتب الممتعة حوى من كل شيء وله ديوان شعر جيد"([212])،
وفي هذا امتداح لابن عبد ربه وإبداء للدرجة العلمية التي بلغها وإبراز لأهمية
كتابه العقد الفريد من الناحية العلمية وكذلك لديوانه الشعري الذي هو غير كتاب
العقد ولكنه ضاع وقد رآه الحميدي بخط يده().
وقد
أورد ابن خلكان قول أبي نواس: "وما لبكر بن وائل عصم إلا بحمقائها" وذكر
أن المبرِّد يقول أنه أراد بحمقائها هبنقة القيسي وعلق على ذلك: "ولا يقال في
الرجل حمقاء فالمبرِّد يرى أن أبا نواس قد أخطأ في ذلك لكن ابن عبد ربه يرى أن
المبرِّد هو المخطئ، فيقف معه ابن خلكان ويؤيده في خطأ رأي المبرد بقوله:
"فالغلط حينئذٍ من المبرِّد"([214])،
وهذا ما يعزز المكانة العلمية لابن عبد ربه في أنه يرى أن المبرد وهو من مصادره قد
أخطأ في بعض التفسيرات والرؤى ومنها هذه الرؤية التي يدعمها ابن خلكان.
3-
الذهبي:
وقد وصفه وأثنى عليه كثيراً فقال عنه عند التعريف به: "العلامة الأديب
الإخباري صاحب كتاب العقد الفريد"([215])،
ثم يستطرد في الحديث عنه بقوله: "كان موثقاً نبيلاً بليغاً شاعراً"([216])،
بل وتعدى الأمر ذلك كثيراً فوصف شعره بقوله: "وشعره في الذروة العليا"([217])،
لكن هذا الإطراء لم يرق ابن كثير كثيراً فاتهم الذهبي بالاغترار بابن عبد ربه
عندما وصفه بالحفظ يقول: "وقد اغتر به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ"([218])،
والسبب أنه كان يرى في ابن عبد ربه التشيع، لكن المهم أن إطراء الإمام الذهبي رحمه
الله لابن عبد ربه ووصفه له بهذه الصفات الرائعة يدل على مكانة ابن عبد ربه
العلمية والأدبية، ولم يكن إطراء ثقة له بهذه الصفات إلا بسبب تمكنه العلمي
والأدبي.
4-
ابن كثير:
وقد أثنى على ابن عبد ربه بقوله عنه: "كان من الفضلاء المكثرين والعلماء
بأخبار الأولين والمتأخرين وكتابه يدل على فضائل جمة وعلوم كثيرة مهمة"([219])،
وقد اتهمه بالتشيع وقد ناقشنا ذلك سابقاً([220])،
ولكن الملفت للنظر مع أنه وصف ابن عبد ربه بهذه الصفات الحسنة إلا أنه ما لبث أن
اتهم الذهبي بالاغترار به عندما وصفه بالحفظ يقول: "وقد اغتر به شيخنا الذهبي
فمدحه بالحفظ"([221])،
مع أن الذهبي لم يثنِ عليه إلا بمثل ما أثنى هو عليه، بل وزاد الأمر أن أثنى على
ديوانه الشعري نقلاً عن قول ابن خلكان قائلاً: "قال ابن خلكان وله ديوان شعر
حسن"([222])،
فهذا التناقض يثير الاستغراب من إمام مثل ابن كثير.
5-
ابن تغري بردي:
صاحب كتاب النجوم الزاهرة في أعيان مصر والقاهرة، ونعلم أن هذا الكتاب كان مخصصاً
لتاريخ مصر لكنه عند الحديث عن الأحداث الأبرز في سنة ثلاث مائة وثمانية وعشرين
ذكر ابن عبد ربه أنه ممن توفوا في هذه السنة وعرّف بأنه صاحب كتاب العقد الفريد ثم
قال عنه: "وكان أديب الأندلس وفصيحها مدح ملوك الأندلس وكان صدوقاً
ثقة"([223])،
ووصفه له بالثقة والصدق وصف جيد لكن اعتباره فصيح الأندلس وأديبها من وجهة نظر ابن
تغري بردي هذا ما يستحق الوقوف عنده لأننا كما نعلم أن الأندلس قد أنجبت من
الأدباء والفصحاء الكثير لكن تقديمه عليهم هو الأبرز.
6-
ابن العماد الحنبلي:
صاحب كتاب شذرات الذهب في أخبار من ذهب المتوفي سنة 1089هـ، وقد أثنى عليه بقوله:
"أحد الفضلاء"([224])
ثم استطرد بقوله: "وهو أموي بالولاء"([225])
وهذا لا خلاف حوله لأنه كما أشرنا سابقاً([226])
أنه من موالي بني أمية ثم أنه نشأ في بلاطهم في الأندلس، كما انه أثنى على كتاب العقد
واعتبره قد حوى كل علم، قال: "وحوى كتابه العقد كل شيء"()،
ثم أشار إلى ديوانه بقوله: "وله ديوان شعر جيد"().
7-
القنوجي:
وهو صاحب كتاب أبجد العلوم، وقد أثنى عليه قال: "صاحب كتاب العقد الفريد كان
من العلماء المكثرين من المحفوظات والاطلاع على أخبار الناس"()،
ثم يمتدح كتابه العقد الفريد: "وكتابه العقد من الكتب الممتعة حوى من كل
شيء"()،
ثم يمتدح شعره مدحاً رائعاً يقول: "وله ديوان شعر جميل، تشمل أشعاره كل معنى
مليح وكل لفظ فصيح"().
5-
أثر النزعة الفكـريـة على كتاباته التاريخية
سبقت
الإشارة عند الحديث عن مذهب ابن عبد ربه إلى أن الوحيد الذي اتهمه بالتشيع هو ابن
كثير وخرجنا بنتيجة مفادها أن اتهامه بالتشيع هو اتهام غير دقيق يحتاج إلى أدلة
دامغة()
وخلاصة
القول في تأثير النزعة المذهبية على كتاباته التاريخية أنه حتى لو صح اتهامه
بالتشيع لم يكن لهذه النزعة من ظهور أو بروز في سياق كتاباته سوى ما ذكرنا من
مبالغته في الترضي عن علي وأبنائه – رضي الله عنهم - كأن يقول عن علي: "عليه
السلام" في مواضع عدة()
وقلنا
في ذلك أنه قد يكون من قوة العاطفة لأهل البيت عنده والتي هي موجودة عند المسلمين
عموماً، إضافة إلى ترضيه عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم دون غيرهم من
الصحابة ومن كانت لديه النزعة الشيعية فهو لن يترضى عن هؤلاء بالتحديد.
أما
ما يتعلق بفكر الاعتزال الذي تناولناه عند الحديث عن مذهبه()
وقلنا
أنه ربما كان يرى الاعتزال فإن هذا الفكر المعتزلي لم يكن له أدنى أثر في كتاباته
التاريخية سوى إهماله لمحنة الإمام أحمد وقصة الجعد بن درهم أما ما عدا ذلك فلم
نلحظ أي أثر لهذا الفكر في كتاباته التاريخية.
6-
القيمة العلمية لكتاباته التاريخية
لقد
اختلفت القيمة العلمية لكتابة ابن عبد ربه التاريخية فمنها ما هو سلبي ومنها ما هو
إيجابي، وسنعرض لها بحسب ما استنبطناه من خلال الدراسة الدقيقة الفاحصة للعقد
الفريد:
فأول
ما نقف عنده أن معظم الأحاديث التي أوردها كشواهد على ما يتحدث عنه هي أحاديث لا
أصل لها ولا وجود لها في كتب الحديث وما يعثر عليه منها نجده في كتب ضعيفة ليست
بذات أهمية في الحديث، وهذا ما يبرز من خلال ما أشار إليه محقق الكتاب محمد
عبدالقادر شاهين إذ نجد أنه كل حديث يخرجه ويذكر مكان وجوده ومن خلال تتبع ذلك نجد
أن كثيراً من الأحاديث لا أساس لها إضافة إلى ما لا يمنع من وجود بعض الأحاديث
التي أوردها البخاري ومسلم وأصحاب السنن عنده ولكنها قليلة.
كما
أن ابن عبد ربه تجاهل بعض القضايا الحساسة وأهملها مثل قضية خلق القرآن وما ترتب
عليها من حوادث، مثل قصة الجعد بن درهم ومقولته بخلق القرآن، وكذلك محنة الإمام
أحمد في قضية خلق القرآن ويبدو أنه لم يشأ الخوض في قضايا حساسة مثل هذه القضية .
كما
أن ابن عبد ربه كان يقدم أقوال الإمام علي والحسن رضي الله عنهما على أقوال النبي
صلى الله عليه وسلم أحياناً، ومن ذلك أنه في حديثه عن الحسد اتبع هذا الأسلوب وبدا
واضحاً، فقد بدأ حديثه عن الحسد بقول علي رضي الله عنه "لا راحة لحسود، ولا
إخاء لملول، ولا محب لسيء الخلق، ثم أورد قول الحسن: "ما رأيت ظالماً أشبه
بمظلوم من حاسد: نفس دائم، وحزن لازم، وغم لا ينفذ" ثم أورد قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "كاد الحسد يغلب القدر"(). وهذا السلوك يبدو أنه عدم اكتراث بمثل هذه
الأمور أو أنه لم يكن ينظر إليها بعين حذرة.
وقد
عرفنا مدى تعلق ابن عبد ربه بالغناء وما أثاره حوله من قضايا كثيرة إلا أنه لم يشر
البتة إلى قضية مهمة جداً في هذا الجانب لا يمكن إهمالها وهي ما يلحق المغنين من
أعطيات وهبات وهدايا، فالغريب أنه يدافع عن الغناء ويحبه كثيراً لكن أهمل هذه
الناحية إهمالاً تاماً مع أنها ناحية مهمة جداً قد تكون هي المحرك الرئيس لتطور
الغناء وتمسك المغنين به.
هذا
وقد بالغ ابن عبد ربه في وصف العود كثيراً حتى أنه كان يراه كالسيف أو كالملك
تتلوه العساكر أو كسرى في أبهة ملكه وأورد أشعاراً له ولغيره في ذلك()،
ولا يستغرب منه ذلك لأننا عرضنا كثيراً لتعلقه وحبه الشديد للغناء والعود من
أدواته فلا بد وأن يصفه مثل هذا الوصف.
كما
أن عبد ربه أورد روايات فيها مبالغة كبيرة قد تجعل البعض لا يقبلها عقلاً وإن كان
بعضها قد أجمع عليه كثير من المؤرخين لكنه قد يرفض منطقاً وعقلاً ولا يصدق، من ذلك
قصة المغنية التي أوصت يزيد بن عبد الملك بثلاثة نفر خيراً فأجاز اثنين منهم أما
الثالث فكلما سأله حاجته يطلب أن تغني له هذه المغنية حتى سقط ميتاً بعد المرة
الثالثة()
وقد
ناقشنا ذلك سابقاً()،
كذلك قضية كلف يزيد بن عبد الملك بحبابة المغنية وأنه عندما ماتت أخذ يرتشفها
ويتشممها حتى أنتنت، ثم ما لبث أن لحق بها بعد سبعة عشر يوماً()،
كذلك رواية الطعام الذي أكله أبو بكر الصديق رضي الله عنه والحارث بن كلدة ثم
معرفة الحارث له بأنه مسموم وما فيه هو سم سنة وبالفعل ماتا عند رأس الحول()،
وقد ناقشنا ذلك سابقاً().
كما
انفرد ابن عبد ربه بذكر قضية مهمة جداً دون غيره من المؤرخين وهي انفراده بمشاورة
المهدي لوزرائه في حرب خراسان وما دار فيها من آراء، وقد تحدثنا عنها مطولاً()
وهذا
سبق له وتميز ولكن هناك ملاحظة على ما عنون له هذه القضية فقد عَنْوَنَ لها بـ
"مشاورة المهدي لأهل بيته في حرب خراسان"()
والصحيح
أن المهدي شاور أركان ملكه من أهل بيته ووزرائه وليس أهل بيته فقط فالصواب قد
جانبه هنا في العنوان.
كما
أن ابن عبد ربه قد أخطأ في تعليله للقب الخليفة الأموي يزيد بن الوليد بيزيد
الناقص فهو يقول: "إنما سمّي بالناقص من فرط كماله"()
ولم
يوافقه أحد من المؤرخين والحقيقة غير ذلك فسبب تسميته بيزيد الناقص لأنه نقص في
أعطيات الجند().
وقد
رجح ابن عبد ربه نسب زياد بن أبيه أنه ابن بغي لأبي سفيان رضي الله عنه()
وإيراده
في غير موضع عند الحديث عن الأدعياء()
وهو
مسبوق على ذلك فقد رأى هذه الرؤية العديد من المؤرخين كما تحدثنا عن ذلك سابقاً().
ومما
يؤخذ على ابن عبد ربه أنه لم يكن يتحرى الدقة في العناوين فمثلاً: أدرج في كتاب
الياقوتة في العلم والأدب عبارة العلم وهو لم يتحدث أبداً عن العلم في هذا الكتاب
البتة()،
إضافة إلى أنه في هذا الكتاب تحدث عن الآداب عموماً وأفاض فيها ثم ما لبث في كتاب
آخر هو كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول يورد عنواناً فرعياً هو الأدب
ويعود للحديث عن الآداب مرة أخرى(). ويضاف إلى عدم تحريه الدقة في العناوين هو ما
ذكرناه سابقاً في مشاورة المهدي لوزرائه في حرب خراسان وعنونته له بـ "بمشاورة
المهدي لأهل بيته في حرب خراسان"().
كما
أن ابن عبد ربه لم يكن يترفع عن ذكر الأخبار الساقطة والأقوال وهي كثيرة جداً
ومنها مثلاً: أن الحجاج بعد أن قبض على زوجة عبد الرحمن بن الأشعث بعد معركة دير
الجماجم طلب من غلامه أن يسألها عن الأموال التي نهبها زوجها بتعبير لا يليق
فسألها الغلام بلفظ آخر لا يليق أيضاً فعفا عنها الحجاج بسبب خطأ الغلام في السؤال()،
كما أورد نصيحة أم الأوقص المخزومي –وهو أحد ولاة مكة- وهي تقول له: "أي بني
إنك خلقت في صورة لا تصلح معها لمجامعة الفتيان في بيوت القيان فعليك بالدين"()،
كما أورد قول سعيد بن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت لبكر بن إسماعيل الأنصاري في طويس
المغني ووصفه بصفة ساقطة تقدح في الرجولة لا تليق()،
كما أورد وصف الفرزدق لشعره بوصف مائع يبعث على الرذيلة في الشعر()،
كما أورد قول أبي الطمحان القيني الشاعر –واسمه حنظلة بن الشرقي- عند يزيد بن عبد
الملك ومعتبراً ذلك أيسر ذنوبه ذلك أنه نزل في دير نصرانية فأكل عندها لحم الخنزير
وشرب الخمر وزنا بها وسرق كساءها وهرب فكافأه يزيد بألفي درهم()،
كذلك أورد قصة الواثق مع المغني الذي أعجب بمغنية فأعتقها وزوجها له، ثم زنا بها
الواثق وأخذ يعير المغني أنه أراد جماعها وهي خادمة الواثق ويجامعها الآن الواثق
وهي زوجة المغني()،
كما أورد رواية عن محمد بن عبدالملك الزيات وزير المتوكل مفادها أنه كان يتعشق
خادماً للمتوكل وكذلك كان كاتب المتوكل الحسن بن وهب يتعشق هذا الخادم().
7-
أثـره على المـؤرخيـن من بعده
لقد
تفاوت تأثير ابن عبد ربه على من جاء بعده من المؤرخين فمنهم من تأثر تأثراً تاماً
فجعل كتاباته مادته الأساسية ومنهم من اكتفى برواية واحدة أو روايتين منه ومنهم من
اعتدل ومنهم من نقل طرفاً من أشعاره وجعلها شواهد يستشهد بها في أمور وقضايا
معينة، وتأثيراته على العلماء من بعده على النحو التالي:
1-
ابن خلكان:
صاحب وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، وقد أورد العديد من الروايات عن ابن عبد
ربه وهي كما يلي:
فأول رواية أن الحسن بن علي رضي الله
عنه دخل ذات مرة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وكان عنده مروان بن الحكم
فجرت بينهم خشونة في الكلام مما جعل الحسن يفخر ببني هاشم ويفضلهم على بني أمية()،
كما نقل عنه رواية تقول أن شريح القاضي تزوج امرأة من بني تميم تسمى زينب فنقم
عليها شيئاً فضربها ثم ندم ثم قال فيها شعراً ذكره()،
كما أورد عنه آراء شعرية يخطِّئ فيها المبرِّد ويرى أنه جانبه الصواب في جوانب
أدبية بحتة()،
كما أورد عنه نسبته لبيتين مختلف فيهما إلى علي بن الجهم()،
كما أورد عنه رواية عن بدايات الحجاج في العمل السياسي تبين أن روح بن زنباع هو
الذي أبرزه في واجهة الأحداث ثم كيف تمكن الحجاج بلباقته وذكائه من حجز مكانة
متقدمة عند عبد الملك بن مروان().
2-
ابن سعيد:
صاحب المغرب في حلي المغرب، ولم يورد عن ابن عبد ربه سوى نموذجاً من شعره في مدح
الخليفة عبدالرحمن الناصر في سياق الحديث عنه()،
كما ذكر عنه أنه من أبناء محمد بن عبد ربه في سياق حديثه عنه().
3-
الذهبي:
وكان تأثره بابن عبد ربه محدوداً لا يتعدى ما نقله عنه في حديثه عن الأمير عبدالله
بن محمد بن عبدالرحمن الأموي أنه كان من أفاضل أمراء بني أمية، وبنى الساباط وواظب
عليه، وأنه التزم بالصلاة إلى جانب اعتبر طوال فترة حكمه()،
كما ذكر أن من تلامذة ابن عبد ربه الإمام المجود الحافظ يحيى بن مالك بن عائذ
الأندلسي().
4-
الوادياشي وابن
منظور:
وقد ذكر عنهما حاجي خليفة أنهما قد اختصرا كتاب العقد الفريد().
5-
ابن
كثير:
وقد نقل عنه روايات قليلة نعرض لها: فقد ذكر أنه حسب رأي ابن عبد ربه أن أفخر بيت
قالته العرب هو بيت لحسان بن ثابت()،
كما أورد عن ابن عبد ربه بيت شعر يقول أنه من قول هارون الرشيد()،
كما نقل عنه رواية ونقدها وردها مفادها أن عثمان -رضي الله عنه- عندما خطب أول
خطبة لم يعرف ما يقول وارتبك، فأظهر ارتباكه واعداً القوم بأنه سيخطب خطبة على
أصولها لاحقاً وقد علق ابن كثير على هذه بقوله "ولكن لم أرَ هذا بإسناد تسكن
النفس إليه والله أعلم"()،
كما نقل عنه الرواية التي نقلها ابن خلكان عن بدايات الحجاج بن يوسف الثقفي في
العمل السياسي()
وأشرنا إليها سابقاً().
6-
الأبشيهي:
صاحب كتاب المستظرف من كل فن مستطرف وقد تأثر تأثراً كبيراً بابن عبد ربه ولم يخفِ
هذا التأثر وأظهره جلياً في مقدمة كتابه بقوله: "ونقلت فيه كثيراً مما أودعه
الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار وكثيراً مما نقله ابن عبد ربه في كتاب العقد
الفريد"()،
ومن قوله هذا نستنتج أنه قد جمع مادة كتابه العلمية من هذين الكتابين وقصرها عليهما،
وما يهمنا هو تأثره بابن عبد ربه وقد كان جلياً عميقاً فشطر مادة كتابه العلمية هي
مأخوذة أو منقولة كما يذكر من عقد ابن عبد ربه، ولكنه لم يميز بين الروايات في أنه
نقل الرواية من الزمخشري أو ابن عبد ربه كأن يقول مثلاً: ذكر ابن عبد ربه أو قال
ابن عبد ربه أو نقل ابن عبد ربه أو روى ابن عبد ربه ونحو ذلك.
7-
ابن
خلدون:
وقد نقد ابن خلدون روايات ابن عبد ربه التي ذكرها مستنبطاً النتائج، ففي نكبة
الرشيد لعمه داوود بن علي الواردة عند ابن عبد ربه يقول: "في محاورة الأصمعي
للرشيد وللفضل بن يحيى في سمرهم تتفهم أنه إنما قتلهم الغيرة والمنافسة في
الاستبداد من الخليفة فمن دونه"()
فهو يرى هنا السبب مشتركاً بين الرشيد وحاشيته وعمه فيرى استبداد الحاشية بالأمر
وغيرة داوود بن علي ومن معه من هذا الأمر هو سبب قيام داوود بن علي وتصفية الرشيد
لهم.
كما يعلق على قصة الزنبيل التي أوردها
ابن عبد ربه في زواج المأمون ببوران ابنة الحسن بن سهل ذلك أنه عندما رآها أول مرة
أخذ يعاقرها الخمر حتى الصباح ثم أعجب بها فتزوجها()،
وقد قال في ذلك: "وأين هذا كله من حال المأمون المعروفة في دينه وعلمه
واقتفائه سنن الخلفاء الراشدين ومن آبائه وأخذ بسير الخلفاء الأربعة أركان الملة،
ومناظرته العلماء وحفظه لحدود الله في صلواته وأحكامه فكيف تصح عنه أحوال الفساق
المستهترين في التطواف بالليل وطروق المنازل وغشيان السمر سبيل عشاق الأعراب وأين
ذلك من منصب ابنة الحسن بن سهل وشرفها وما كان بدار أبيها من الصون والعفاف"().
كما استشهد بقول ابن عبد ربه من أجل أن
يصل إلى نتيجة يقول: "وانظر ما نقله صاحب العقد في مسامرة الرشيد للأصمعي في
باب الشعر والشعراء تجد ما كان عليه الرشيد من المعرفة ورسوخ في العناية والتبصير
بجيد الكلام ورديئه وكثرة محفوظه منه"().
8-
القلقشندي:
وكانت فائدته من ابن عبد ربه في النواحي المتعلقة بالأدب، فنقل عنه قوله في
الأمثال: "قال صاحب العقد: والأمثال هي وشي الكلام وجوهر اللفظ وحلى
المعنى"()
فهو ينقل كلامه ويراه، وعرض لبعض تفسيراته في الأمثال يقول: "ومن كلام بعض
الحكماء سرك من دمك قال صاحب العقد يعنون أنه ربما كان في إنشاء سرك سفك دمك"()،
كما أنه في أصول المكاتبات يستشهد بأقواله ويراها ففي الأصل السابع يقول: "أن
يراعي مقاصد المكاتبات فيأتي لكل مقصد بما يناسبه ومدار ذلك على أمرين، الأمر
الأول: أن يأتي مع كل كلمة بما يليق بها ويتخير لكل لفظة ما يشاكلها قال ابن عبد
ربه: وليكن ما تختم به فصولك في موضع ذكر البلوى بمثل نسأل الله رفع المحذور وصرف
المكروه وأشباه ذلك وفي موضع ذكر المصيبة إنا لله وإنا إليه راجعون وفي موضع
النعمة الحمد لله خالصاً والشكر لله راجياً وما شاكل ذلك"()،
كما يرى في الكاتب الحق رأي ابن عبد ربه يقول: "قال ابن عبد ربه فإن في
المواضع مما يتعين على الكاتب أن يتفقدها ويتحفظ فيها فإن الكاتب إنما يصير كاتباً
بأن يضع كل معنى في موضعه ويعلق كل لفظ على طبقه في المعنى"()،
كما أن القلقشندي لم يهمل الجانب التاريخي عند ابن عبد ربه فنقل عنه عهد عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري بالقضاء حيث أورد هذه الرواية عند ذكره بدايات
افتتاح الكتاب بـ "أما بعد"()،
كما أورد عنه قدوم عمر بن الخطاب الشام ومعه عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما
واستقبال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لهم بمظاهر الأبهة وعندما لامه عمر على
ذلك برر له ذلك أنه إظهاراً لعظمة ملك المسلمين أمام الأعداء مما جعل عمر يتراجع
فلا يأمره بذلك ولا ينهاه عنه ثم قول عمر فيه: "لحسن مصادره وموارده جشمناه
ما جشمناه"().
9-
المقري:
وكتابه نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب كتاب أدبي غني بالمعلومات التاريخية وقد
ذكر فيه بعض الروايات عن ابن عبد ربه، فأول ما يقع عليه النظر عنده يذكره أنه قد
كتب شعراً في مصابيح المغنية يمتدحها وأرسله إلى مولاها مما جعله يمتعه بسماعها()،
كما أورد قصة هجاء بين ابن عبد ربه وصديقه الشاعر يحيى القلفاط()،
كما أورد له شعراً يقول أن الفتح بن خاقان قد نسبه إليه وأورده أحمد بن ليون
التجيي في كتابه أنداء الديم()